العبر والدروس من فيضانات كيرلا
العبر والدروس من فيضانات كيرلا
- ١٦ جُمَادَىٰ ٱلْآخِرَة ١٤٤١
كيرلا بلاد تقع في جنوب الهند، وتأسر قلوب الناس بمناظرها الطبعية، أرضها مليئة بالأنهار والترع والجبال والتلال، وجوّها نقي صفي لا تكدره شوائب التلوث، واسمها يدل على أن ربوعها تتزين بخيرات الله، وكيرلا اسم مركب من خير الله، سماها العرب بهذا الاسم، حوّله الدهر إلى اسمها المعاصر كيرلا، لكن للأسف يمرّ هذا البلد الهندي وأهله بأسوء وضع في هذه الأيام، يتعرض لفيضانات ضخمة، أسفرت عن مقتل المئات وتشريد مئات الآلاف، وأدى ارتفاع المياه إلى تقطع السبل بعشرات الآلاف من السكان وإغلاق أحد المطارين الرئيسين في كيرلا...الفيضانات بصقت سمومها الناقعة في جنوب الهند، حقا... لم يشهد أهل كيرلا خسارة هائلة تماثل ما حل بهم في هذه الأيام، هذه الفيضانات في أقصى جنوب الهند لم تدع أية قرية من قراها ومدينة من مدنها إلا اجتاحها ودمّرها، والسكان يقضون أوقاتهم في خوف وفزع، نزل المطر بغزارة، والرياح تناوحت بشدة وعنف، والبحار والأنهار هاجت هيجانا عارما، والديار استغرقت في المياه، تصدعت الجبال وتشققت الشوارع، وعمت الانهيارات الأرضية...
والعديد من السكان نزحوا إلى القرى المجاورة والبلاد النائية، وكثير من الناس من بينهم الأطفال والنساء والشيوخ وقعوا في المناطق التي كادت أن تغرق والطرق الوعرة إليها طافحة بالمياه، وهم يستغيثون راجين يد المد والعون من أية جهة، وبعضهم يسكّنون مقاطع الصوت في الوسائل الاجتماعية كي يفيدوا غيرهم بأنهم بين مخالب الموت، ومما يذيب أفئدة الناظرين مشاهد الذين لجؤوا بالطابق الثاني للديار عندما امتلأ الطابق الأول بالمياه الجارفة، وهم يبكون ويستغيثون، يا الله.... أين المفر..؟!! أين المفر...؟!!! وإن لم تفعل بهم السلطة الحكومية شيئا على الفور يختضع جميعهم لكابوس الموت والرحيل...
وحكومة كيرلا بالتعاون مع الحكومة الهندية المركزية تبذل قصارى جهدها لإنقاذ المكروبين، وأعلنت مساعدة مالية غالية للذين فقدوا منازلهم وأقاربهم، وتم تجميع الكثير من المواطنين ثم نقلهم على متن الزوارق والقوارب إلى الأمكنة المنيعة، وأرسلت الحكومة الهندية المروحيات و الطائرات لتلخيص المتضررين، وأقبل الأثرياء الهنود على تضحية بكل ما لديهم للمستغيثين في كل حدب وصوب بكيرلا.وهذه الواقعة حدثت والعيد قريب، والعديد من مواطني كيرلا ليس لهم لباس وغذاء حتى ما يقوّم ظهورهم، بل هم باتوا في المخيمات ورقدوا في التراب واضعين أيديهم تحت رؤوسهم، وسادتهم يد..!! فراشهم تراب...!! والسماء فوقهم...!!! والأرض تحتهم...!!! ليس لهم عيد وأضحية...وهذه الحال البائسة لبلادنا فلا بد لنا من أن نستفيد منها عبرا ودروسا، تعيش بلادنا أجواء ممطرة وسحبا غائمة، ورعودا وبروقا لامعة، وأودية جارية وسدودا ممتلئة، ومن أجمل لحظات عيش الإنسان في الدنيا لحظات نزول المطر، بل لا تكاد توجد صورة في الدنيا أجمل من نزول الغيث من السماء، لاسيما مع حاجة الناس والحيوان والأرض إلى الماء؛ وصدق الله العظيم إذ يقول: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ ۖ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ .
الماء آية من آيات الله، ودليل من دلائل قدرته الباهرة؛ حيث قال جل وعلا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ۖ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ. الماء نعمة من الله جليلة، وهبة من الخالق جميلة، وقال تعالى أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ، أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ .والشيء الجدير بالذكر أن الماء أغلى مفقود، وأرخص موجود، إذا عدم أو غار أو عجز الخلق عن طلبه، فقدت الأرض نضارتها، وعدمت ثمارها، وهلكت ماشيتها، فإذا عاد إليها اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، وبالجملة جعل الله الماء للأرض حياة، ولعباده بركة ورحمة، وللأنعام رزقا، قال الله تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ ۖ أَفَلَا يُبْصِرُونَ .ومما يجلنا مفكرين أن الماء خلقه عجيب، ونبؤه غريب، صوره ربه بلا لون، وأوجده بلا طعم، وأنزله بلا رائحة، خفيف الروح بهي الطلعة، لطيف رقراق يخالط الجوف، وسهل لين يحمل في الآنية والأسقية، وفي الوقت نفسه أنه عنيد مهلك يطغى على الأودية، ويبلغ الجبال فيغرق من تحته ويهدم ما أمامه. كثيرة هي آيات القرآن تسرد ذكر الماء وثمراته وبركاته فيما يزيد على ستين موضعا،
تحفل بالصور والمشاهد الدالة على كونه نعمة ورحمة من الله تعالى، ليس هذا فحسب بل ونقمة وعذابا وبلاء على الظالمين والكافرين والجاحدين، فهذه النسمات اللطيفة والقطرات الصغيرة التي يتنعم بها، قد تكون سيلا هادرا مهلكا كما قال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ. تدمر كل شيء بأمر ربِها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين.إن الماء جندي من جنود الله، وسجل له القرآن عمليات كبيرة، قام بها ضد من خالف أمر الله،
واستكبر في الأرض، فكان نقمة تحدث الكوارث والموت، فأصبحت كوارث ومصائب لا تنسى أبد الدهر، حيث قال الله عز وجل وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ ۚ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا ۚ بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا .لقد أغرق الله - جل وعلا - بهذا المطر أقواما تمردوا على شرع الله، وفسقوا وظلموا، فكان عاقبتهم أن سلط الله عليهم هذا الجندي، فأغرقهم ومزقهم كل ممزق؛ يقول الله في موجز كلامه : كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ ، فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ، فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ ، وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ ، وَلَقَد تَّرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ .إنه الماء الذي طغى ليهلك كل طاغية، فأغرق فرعون وأذله، وأخذه وجيشه حيث ذكر كتاب الله : فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ. إنه الماء والسيل العرم، الذي جاء لقوم سبأ فكانوا للناس في العبرة أحاديث، ومزقهم الله كل ممزق كما قال تعالى : لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ۖ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ ۖ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ ۚ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ .إنه الماء والمطر الذي وقف في صف الجيوش المسلمة، كما حصل في غزوة بدر قال تعالى : إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ.
وبالجملة ان هطول الأمطار ونزول الماء كما يكون رحمة من الله وبركة على خلقه ربما يكون عقابا وعذابا لآخرين، ولعل هذا السر في أن النبي - صلى الله عليه وسلم – كان إذا رأى غيما أو ريحا تغير لونه، وعرف ذلك في وجهه، فقالت له عائشة - رضي الله عنها : الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرفت في وجهك الكراهية! فقال: يا عائشة، ما يؤمنني أن يكون فيه عذاب! قد عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: هذا عارض ممطرنا رواه البخاري ومسلم. هكذا كان سيد الخلق وأعرف الخلق بالله، فما بالنا نحن نغفل عن هذا؟! وكأننا بمأمن من أن يصيبنا العذاب بالريح أو بالمطر، أو البرد أو الزلازل، فأكبر عبرة نستفيدها من فيضانات كيرلا هي أن الشعب إذا عصوا الله ورسوله يرسل جل وعلا إليهم العذاب في صور مختلفة... تارة في صورة المطر... تارة في صورة المرض... هكذا... والله المستعان...